حكى أحد العلماء، فقال: كنت مرة مع صحب لي في المسجد النبوي الشريف ننتظر الإفطار في رمضان، وكان أحد المحافظين على ذكر الإفطار جالساً، فما أن تناول واحدة من التمر حتى قال على عجل: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت وعليك توكلت، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". فقلت له منبهاً على هذه الحال، وقبل أن يتناول الماء: هل ذهب ظمؤك وابتلت عروقك حقاً! فتعجب وتنبه(1).
فهل أنت من هؤلاء الذين يدخلون شهر رمضان ويصومون صومهم كعادة من العادات التي يساير فيها المجتمع! دعنا نضع بعض الأضواء الكاشفة ونقترب قليلاً من أنفسنا، لنرى ونقارن بين حقيقة الصيام في أنفسنا وحقيقة الصيام الذي شرعه الله تعالى لنا.
أولاً: الهدف:
هدف الصيام هو عبادة الله _تعالى_، وليس شيئاً آخر، ولا تعجب فتقول وهل هناك من يصوم لغير عبادة، لأن هناك مرضاً يسير في القلب دون أن يشعر الإنسان، فيسيطر على إرادته ونيته، وهو مرض جمود القلب وتبلده، فلا يشعر صاحبه بمعنى العبادات التي يؤديها، ويتحول قلبه إلى ما يشبه الآلة التي تعمل دون فهم لما تقوم به لأنها آلة لا تشعر ولا تحس، وكم من مسبح أو مستغفر لا يدري ما يقول، وكم من داع وقلبه غافل عما يطلبه من الله _تعالى_، وكم من مصل لا يشعر بصلاته إلا في السلام، وكم من صائم لا حظ له من صومه إلا الجوع والعطش!
ويا للأسف الشديد من ظاهرة غريبة، قد تزيد من حدة هذا المرض لدى بعض الناس، وهي أن بعض الناس لما لم يشعر بطعم العبادة، ذهب يبحث عن الفوائد المادية والبدنية للعبادات في الإسلام، لعله يجد ما يشجعه على أدائها، فالوضوء يشجع على النظافة، والحج سياحة، والزكاة ضريبة، والصلاة مفيدة في علاج بعض أمراض الظهر، والصيام مهم لمعالجة السمنة والضغط.
وتبالغ بعض الوسائل الإعلام في مواسم العبادات في إظهار الفوائد المادية، مع أن لهذه المبالغة خطورة كبيرة على نية العبادة، حيث تنصرف بعض النفوس الضعيفة إلى تحقيق الهدف المادي وتتطلع إليه أكثر من تحقيق الهدف الحقيقي للعبادة، وهو عبادة الله تعالى، والتي تعني غاية الخضوع مع غاية الحب له _سبحانه_، غاية الخضوع في طاعته وتنفيذ ما أمر به، وغاية حب ما يقدمه العبد من عبادة وطاعة لربه _عز وجل_، قال _تعالى_: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 162]، وقال _تعالى_ عن الصلاة مثلاً: "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" [طه: 14]، وقال _تعالى_ عن الهدي: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ..." [الحج: 37]، وقال _تعالى_ عن الإنفاق: "وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة..." [البقرة: 265]، وقال _تعالى_: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 162]، وقال _صلى الله عليه وسلم_ منبهاً للهدف من الصوم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " أخرجه البخاري وغيره.
لعل الدواء الذي يمكن أن تستعمله لتجنب هذا المرض أو لعلاجه هو أن تذهب إلى كتاب الله _تعالى_ وتقرأ تفسير آيات الصيام، وتقرأ فضله وما أعده الله _تعالى_ للصائمين، لتجدد في قلبك حب الله _تعالى_ والشوق إلى لقائه بعمل يرضيه، وتنفض عن قلبك غبار الحياة وهمومها لتقوى نبضاته مرة أخرى مع عبادة الله _عز وجل_.
ثانياً: الثمرة:
أتعرف ما هي الثمرة من الصيام، إنها تقوى الله _عز وجل_، وسوف نستعملها هنا كضوء كاشف لنعرف حقيقة صومنا، أهو مزيف أم أصلي، ودعنا نتكلم بصراحة في نقطة محددة: كيف ستقضي سهرتك في شهر مضان؟
لقد أعد لك شياطين الإنس مصيدة كبيرة جداً للإيقاع بك في المعاصي والمنكرات من مشاهدة النساء وسماع المعازف والأغاني والأفلام واللهو والمجون والإعلانات المنحلة، فهل ستقضي ليل رمضان معهم، إن كان الأمر كذلك فسوف تخسر ملايين الحسنات، وتحمل بدلاً منها جبالاً من السيئات. وأنت تعرف لماذا.
وهناك نقطة مهمة وهي أنك ستخسر بسهرتك معهم ثمرة التقوى، وهي خسارة فادحة، لأن الصوم عبادة تدرب العبد على طاعة الله تعالى، وذلك طوال شهر كامل، لتكون نفسه بعد ذلك جاهزة إيمانياً لاستقبال بقية العام، فيكون بما تكوّن في قلبه من تقوى لله _تعالى_ قادراً على إتمام العبادات والتحكم في هوى نفسه وشهواته، قال _تعالى_ عن ثمرة الصيام: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون" [البقرة: 183]، وإذا لم تعمل على تحقيق هذه الثمرة فأنت على خطر عظيم، حيث قال _صلى الله عليه وسلم_: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري.
ثالثاً: الحسنات:
حين تدرك شهر رمضان تكون في جنة عظيمة مليئة بالثمرات، وقد سمح صاحبها لضيوفه بأخذ ما يشاؤون منها لمدة محدودة، فإن أردت أن تكون أقل المستفيدين منها، فاترك شهر رمضان يمر عليك كعادة من العادات التي تواظب عليها، وإن أردت الفوز بعظيم ما فيها من ثمرات وفرصة كبيرة لجمع الحسنات؛ فأنت في حاجة إلى أن تذكر نفسك كل عام بخيرات هذا الشهر، وما يترتب على العبادة فيه من حسنات كثيرة مضاعفة، وفضل كبير لا يوصف لا ينبغي لعاقل أن يضيعه.
ولقد أنعم الله _تعالى_ علينا في هذا الشهر العظيم بمضاعفة الحسنات، وسنّ لنا رسولنا _صلى الله عليه وسلم_ سنناً كثيرة متنوعة تناسب جميع الناس وقدراتهم للتقرب بها إلى الله _تعالى_ لنيل فضله، فمنها صلاة القيام، ومنها مدارسة القرآن، ومنها الاعتكاف، ومنها الصدقة، ومنها قيام ليلة القدر، فانظر ماذا سيكون حظك من هذه الكنوز!
قال _عليه الصلاة والسلام_: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ _عزَّ وَجَلَّ_: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِى. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ".
عن جابر بن عبد الله: أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رقى المنبر، فلما رقى الدرجة الأولى قال: " آمين "، ثم رقى الثانية، فقال: " آمين "، ثم رقى الثالثة: فقال: " آمين"، فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تقول: "آمين" ثلاث مرات؟ قال: "لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل _صلى الله عليه وسلم_، فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يُغفر له. فقلت: آمين. ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. فقلت: آمين. ثم قال: شقي عبد ذكرت عنه ولم يصل عليك. فقلت: آمين"(2).